مدخل : أول شيء يستوقف القارئ في " ديوان الرمل " للشاعر أحمد القاطي هو عنوانه . هذا العنوان يفتح توقعات القراء على مدلولات شتى يتسع لها دال الرمل ، صوتيا على الأمل فهذا الدال يدعونا إلى استحضار فضاءين متباينين إلى حد التعارض هما فضاء الصحراء وفضاء البحر . ورغم هذا التعارض فإنهما يشتركان في مجموعة من الخصائص من قبيل : الرياح ، العواصف ، الترحال ، الغزارة ، التيه ...
وإذا كان عنوان الديوان يتسع ليشمل هذه المدلولات وغيرها ، فإن لوحة الغلاف التي خطتها أنامل الفنان " محمد الشريفي " تحد من اتساع العنوان حيث ترجح كفة فضاء الصحراء على فضاء البحر ، ويتجلى ذلك من خلال إيحاءات العواصف الرملية داخل اللوحة وما تحدثه من دمار وخراب ومحو لكل أثر ورسم . لكن الهرم القابع في أعلى اللوحة والمحمل برموز تحيل على الأصالة ، يوحي بالشموخ والصمود في وجه دمار العواصف والرياح ، وهذا يحد أكثر من اتساع العنوان ليختزل في ثنائية : الدمار / الصمود ، بل أكثر من ذلك فإن حضور مؤشرات في اللوحة توحي بالأصالة وسط فضاء يوحي بالدمار من شأنه أن يجعل القارئ يتوقع أن التيمة التي قد تهيمن على نصوص الديوان يمكن اختزالها في الآتي : إن الكوارث بمختلف أنواعها لا يمكنها أن تنال إلا مما هو عرضي أما الجوهري أو الأصيل فسيظل شامخا وصامدا على مر العصور ، وظلت معه الأطلال والرسوم التي دمرتها الطبيعة واستوت مع رمال الأرض ، خالدة أبد الدهر على عصور باذخة .
فإلى أي حد يمكن اعتبار ثنائية الدمار / الصمود أو ثنائية العرضي / الأصيل عتبة لولوج عالم نصوص الديوان ، وإدراك بعض أسرارها الخفية ؟
الخماسية
في قصيدة الخماسية ينقلنا الشاعر إلى عالمه الخاص ، ويتوقف بنا عند مجموعة من المحطات الحاسمة في حياته ، وإن كان أن أهم حدث أثر ولا زال يؤثر في حياته يعود إلى طفولته ويتمثل في فقدان الأم . ورغم ما يوحي به هذا الفقد من ضياع وتيه فإن الشاعر قد وظفه في قصيدته بطريقة تفرغه من مدلوله السلبي ، بحيث لم يعد الفقدان مرادفا للحرمان والفراغ بقدر ما غدا محفزا وشحنة نفسية تتحسس الألم وتصنع منه حبا وبدرا وورودا طافحة بشتى مظاهر الحياة ، فتارة يتحول فقدان الأم إلى طاقة يستمد منها الشاعر قوته وصموده ، وتارة أخرى يصبح ضياء لروحه في وقت الهجود . وهكذا فإن المقاطع الخمسة المشكلة للقصيدة تصب جميعها في اتجاه واحد هو أن الفقد قد طال ما هو عرضي فقط ولم ينل مما هو جوهري .
يقول في مستهل المقطع الأول :
في دمائي قطرة منك لليلي
أنت ِ من أهوى ، ويهوى كل إنس
في حياتي ، بسمة
لم تكتمل بعد
وورد قد ذوى
منذ السنا غاب وولى
كيف لي أن أمضي الآن وبدري
غاب عني ؟
إن غياب الورد والبدر من عالم الشاعر هو غياب للعرضي والزائل ، غير أنه لم ينل من عزم الشاعر ، ففي أعماقه بدرة من أمه تغذي روحه ، وقطرة من دمها تسري في دمه وتضيء ظلام ليله ، وقوة مستمدة منها تنير سبيله . وهكذا فإن غياب الضوء الشاحب ( بدر الشاعر) يقابله حضور الضوء الساطع : الضياء " ضياء الروح ، في وقت الهجود " والنور " أنت ِ أنت ِ الآن نور به أمضي "
يقول في مستهل المقطع الثاني :
في مسيري ، قوة منك استمدت
أنتِ ، يا در الوجود ،
يا ضياء الروح ، في وقت الهجود
والطريف في هذه القصيدة أن طيف الأم أقوى وأجلى من الأم ذاتها . فإذا كانت الأم تنتمي إلى عالم الماضي وعالم الذكرى والغياب ، فإن طيفها لا يزال يستمد قوته من الماضي ويقتات منه ليبقى ملازما للشاعر ، ومنقذا له من آفات الدهر ، إنه جوهرها وروحها :
كنت زادي وملاذي
كلما كر المساء
كنت فيئا
قد حماني من عوادي الدهر
من عصف الرياح
عطفك السامي رعاني
فوجدت الكون شلال أمان
لقد كانت الأم هي مصدر الحماية والرعاية والزاد والملاذ والعطف ، والفيء الذي يحضن الشاعر ويقيه من عوادي الدهر ويحول عالمه إلى شلال أمان ، أما الآن فإن طيف الأم أصبح أكثر قوة وحضورا من الأم ذاتها ، فهو القوة ودر الوجود وضياء الروح ، والنور الملازم للشاعر:
أنت ِ ، أنت ِ الآن نور
به أمضي
راسما خطوي بعزمي
وإذا كانت الأم فيئا ( ظلا ) يقي الشاعر من عصف الرياح ، فإن الشاعر بعد فقدانها أصبح أيكة ، ومصدرا للظل ، وكأن الأم ورثت مجراها سرا من أسرارها ليواري به همه وغمه ، فينتصب هرما شامخا في وجه الأمواج العاتية ، مغالبا يأسه ممتطيا هواه وسط العواصف المدمرة :
كيف لي أن أمضي الآن وبدري
غاب عني ؟
تاركا إياي وسط البحر أهوي
غير أني ما هويت
لا ولا الموج العنيف
نال مني فانثنيت
أيكة كنت أغطي
كل هم ، كل غم ، مذ أتيت
ذاك سري في شموخي
قد أمدتني به الدنيا
لئلا يمتطيني اليأس قهرا .
والخلاصة أن تيمة الصمود والتحدي والشموخ هي التيمة المهيمنة على هذه القصيدة ، ويؤكد ذلك ، علاوة على ما تقدم ، ما ورد في المقطع الثالث والرابع :
في صلاتي ، بذرة منك لروحي
أنقذتني من هوى النفس البغيض
أنقذت مجراك من غيض المعين . ( مستهل المقطع الثالث )
في صمودي ، عبرة منك لأحيا
وسط أدغال العباب ( مطلع المقطع الرابع )
تحتفي التجربة الشعرية لأحمد القاطي إذن بالذات والتجربة الذاتية ، تجربة تتوسل بالشعر لتتجاوز نثرية الحياة وقبحها ، ولتمجد المشرق فيها والجميل ، في لوحات تشكيلية يتعانق فيها اللون وحركة الأمواج والرياح وصدى الشلالات ورائحة التراب ، ليتماهى ذلك كله في دفء الإحساس ونبل المشاعر الإنسانية المترفعة . إنه شعر يمجد النبل فينا ، ويدعو إليه ، شعر يتسامى بالنفس ويعلو بها إلى مقامات الهوى وإشراقاته .
ملحوظة : هذه قراءة نقدية قدمت في حفل تقديم وتوقيع الديوان الشعري الجديد للشاعر " أحمد القاطي " " ديوان الرمل " يوم 3/ 12 / 2005م بمقر غرفة الصناعة والتجارة بتازة في إطار أول نشاط ثقافي لفرع اتحاد كتاب المغرب بالمدينة المذكورة .
محمد مساعدي
الكلية المتعددة التخصصات