كنت جالسا في منزلي في احد أيام الشتاء، و السماء تبكي على البشر المتنازعين تحتها، و الريح تنوح في الطرقات على ما تراه من ظلم البشر، و أنا اجلس معي، و أتحدث و إيّاي في مختلف الموضوعات، و قررنا أن ننزل إلى شوارع المدينة قليلا كي نرى حالها، فلبسنا الأسود، و نزلنا، نزلنا إلى شوارع المدينة التي ولد فيها السيد المسيح له المجد، مدينة تسمى بيت لحم، بدأت امشي على الأرصفة الملطخة بدماء الاحترام و الأدب و الأمانة الذين قضوا شهداء في معركتهم مع الكذب و النفاق و الرياء، و خلال سيري رأيت شجرة تبكي، للوهلة الأولى اعتقدت أنها قطرات دموع السماء تبللها، لكنني أيقنت أنها دموعها هي، اقتربت منها و نظرت إليها مليا، و تفحصتها، فإذا هي عارية، لا ورق ولا ثمر و لا زهر، فقلت لها:"ما بك يا زيتونة؟ كيف لا يكون على الزيتون أوراق؟!" فقالت لي: "لا تتعجب، فكما يعيش الإنسان بلا قلب أعيش أنا بلا أوراقي، ذلك هو حال الحياة، و ذاك البشري الذي بات يعيش دون قلبه قد عراني من أوراقي و اعزّ أغصاني التي أثكلني بنزعها عني، ليشعلها نارا يستدفئ بها، كيف يهون له أن يضر غيره لأجل سلامته؟ كيف يؤذي أمّه كيف يرتاح؟ أوَليست الطبيعة أمّه؟ لماذا يفعل هذا بها؟ أين وصية الله:أكرم أباك و أمك؟!" قالت هذا ثم ضعف صوتها و خانتها الكلمات و عادت إلى بكائها، تتشارك هي و السماء الأحزان سويا، نكست رأسي مخزيا من فعل البشر لأنني أعد منهم، و ليس بإرادتي بل هو الحظ.
نظرتُ إليّ و قلتُ لي:"دعنا نعود إلى البيت، ما خرجنا إلا لنحزن." فأجبتُني:"لا دعنا نكمل علنا نعلم أشياء أخرى مهمة." و فعلا، لم أتمكن من إقناع نفسي بالعودة إلى البيت، و سرنا في الشارع ذاته، فرأينا لوحة على حائط إحدى البنايات مكتوب عليها: "هنا قضى شهيدا." فاقتربنا علنا نعرف من هو، فوجدنا أنفسنا أمام مقبرة مليئة بالحفر الخالية، فتساءلنا عن سبب فراغها، فخرج شيخ جليل ذو لحية بيضاء تصل إلى صدره، و قال لنا: إنه أنا. لم نفهم بالضبط من هو، و ما عرفناه أو رأيناه من قبل، فسألته و أنا أشعر بهيبته:"و من أنت؟ لا أعرفك." ضحك ضحكة تهتز لها الأفئدة و قال لي:" بالتأكيد أنت لا تعرفني، و منذ متى عرف أهل مدينتك الإحسان؟!" حينها سرت مسرعا مبتعدا عنه و هو يضحك و صوته لا يفارق أذني، و هذه الجملة لا تزال تتردد في أذني: {و منذ متى عرف أهل مدينتك الإحسان؟!} و بعد سير دام لدقائق رأينا خلاله البشر منهمكين في جمع المال، و شراء الأشياء، و الرياء و المداراة، رأينا خلال السير بشرا يعبدون المال، و هو إلههم الوحيد الذي لا ثاني له، و يدعون عبادة الله إله المحبة و ما هو في قلوبهم أبدا.
وصلنا في سيرنا إلى كنيسة المهد، نظرت إليها و إذا هي تبكي موتاها، تبكي شعبها، و أجراسها تدق معلنة وفاة الخير و موته على أبواب أبنائها فقيرا، جائعا، جاءهم جائعا فما أطعموه، عطشانا و ما سقوه، طالبا المبيت و ما آووه، مريضا و ما داووه، فمات على أبوابه عائدا إلى الله ليعيش في الأبدية، فنظرت إلى تلك الأجراس و كأنها زنابق يلعب بها الريح فتتحرك هنا و هناك، و صوتها لا يزال في أذني، لا يختلف عن صوت امرأة تبكي لفقد عائلتها بكاملها فلم يبق إلا هي، و بقيت وحدها بين الغرباء لا يقدرونها حق التقدير.
أدرت وجهي إلى الجهة الأخرى فرأيت مسجد عمر بن الخطاب، يقف حزينا، شاحب الوجه، ينظر إلى الكنيسة و كل منهما يعزي الآخر بفقد عزيز، و وقفت بينهما حائرا إلى أي بيت عزا سأذهب، و في برهة واحدة لفت نظري قطرة ماء تجلس على احد المقاعد الموجودة في الساحة، فذهبت إليها و قلت لها: ما بال الكنيسة و المسجد يبكيان، و السماء تبكي، و أنت حزينة؟ نظرت إلي و قالت في صوت حزين: كيف لا نبكي و لا نحزن و قد مات الإنسان؟ و ما بقيت منه إلا الذكرى...
الرئيسية 
التسجيل 
دخول 
الإثنين أغسطس 11, 2008 11:43 pm
