جلس اثنان يستمعان للموسيقى، فسمعا لحنا جميلا من إحدى السيمفونيات الخالدة، الأول منهما نصت لهذه الموسيقى و انتقل إلى أعماقه، إلى الذات في داخله، و بدأ يتموّج و يتمتم مع الموسيقى و يترنم، فكأنه عصفور يغرد على غصن من أغصان شجرة الأحلام، يقفز من غصن إلى غصن لاقطا ثمار النغمات، و يتمايل هنا و هناك كأنه أغصان شجرة ترقص مع النسيم على لحن الربيع الجميل، و وجهه مليء بالبهجة و الفرح كزهرة حمراء تفتحت في حديقة السعادة، و بقي على هذه الحال و الاسطوانة تبعث اللحن الجميل في أنحاء الغرفة كأنها حسناء تترنم بأغاني التراث على البئر....
أما صديقه، فقد نظر إلى اللاشيء، و شرد ذهنه إلى حبيبته التي لا نصيب له فيها، فارتعش جسده، و ملأت الكآبة صدره فكأنما هو رجل كهل يحمل كيسا ضخما من الطحين ولا يقوى عليه، و بدأت الدموع تتهاطل من مقلتيه كالساقية في وسط جبل، و شفتاه ترتجفان ارتجاف رجل ينام في كومة من الجليد، و يضغط على شفتيه بأسنانه كامرأة تصارع المخاض، و يتذكر ضحكتها و ابتسامتها، فيبتسم ابتسامة كالعلقم، ممزوجة بالدموع المالحة، يفرح لأنه عاش تلك الأيام و يبكي لفقدانها، كأم ثكلى تعيش بين ذكريات ابنها الذي لم يتم صباه حتى انتزعه الموت من بين يديها، و يتأمل و يبكي حتى لمعت دموعه حين تلتقي بشعاع الشموع كبلّور شفاف يسحر العيون، و لكنه في الوقت ذاته هادئ، كالجبل الذي مرت عليه آلاف السنين من هيجان الطبيعة و لم يتحرك، بقي صامتا كجبابرة عادوا من حرب بقاء، بقي ثابتا في مكانه كأنما هو صنم من أصنام قريش، و لا يتحرك فيه إلا دموعه و شفتاه.
أما في داخله، فكل شيء يتحرك، تلك النار التي تحرق قلبه، و تذكره بالفتاة التي أحبها قلبه، بل توحّد فيها و عشقها، تلك الفتاة التي كانت التربة التي نما فيها حبه للحياة، فرحلت عنه و بات غصنا جافا ينتظر أن يحرق ليستدفئ به الناس. في داخله صراع قوي بين متعة الحب و عذابه، بين ابتسامة الفرح بالماضي و دمعة ألم الحاضر، و حين امتزجت المتعة بالعذاب، و الابتسامة بالدمعة، أي مرارة شعر!!